الاثنين، 28 أكتوبر 2013

نظرية التقمص الوجداني

نظرية التقمص الوجداني



        المقدرة على التقمص الوجداني جزء لا يتجزأ من الاتصال، لأنه يربط بين ذهن المرسل وذهن المتلقي، والتقمص الوجداني هو المقدرة عن فهم الحالة الذهنية لشخص آخر، كأن تقول لشخص آخر (أنني أفهم مشاعرك ) ..كيف يتحقق التقمص الوجداني ؟.. وما هي قيمته للاتصال في هذه العملية ؟ 


يكتسب الفرد المقدرة على التقمص الوجداني بالتحرك المادي من مكان إلى آخر أو عن طريق التعرض لوسائل الإعلام، التي تجعل التحرك السيكولوجي يحل محل التحرك المادي أو الجغرافي، وقيمة التقمص الوجداني للاتصال يمكن تلخيصها في أنه لكي نتصل يجب أن يتوافر لنا على الأقل ثلاثة عناصر:

1- وسائل مادية للاتصال

2- رجع صدى

3- مقدرة على التقمص الوجداني


والمقدرة على التقمص الوجداني، أي عمل استنتاجات عن الآخرين، وتغيير تلك الاستنتاجات لتتفق مع الظروف الجديدة ، هذه المقدرة معروفة منذ ألفي عام، فقد أشار إليها أفلاطون وسان جون وسان أوجستين وسان الاكويني Equnas وبعد ذلك سبينوزا Spinoza في مؤلفاتهم، وقد اعتبرها آدم سميث وهربرت سبنسر عملية انعاكس بدائي، وفي هذا القرن ناقش الباحثون ليبس Lipps وريبوت Ribot وشلير Scheler التقمص الوجداني في تحليلهم للعطف ، ويرجع الفضل في (نحت) كلمة الوجداني Empathy في اللغة الإنجليزية إلى تيوردور ليبس الذي سماها Feeling Into


وقد طور الباحث جورج ميد نظرية التقمص الوجداني في كتابهMind,self,and society فقد افترض ميد أنه حينما نتوقع أو نستنتج مشاعر الآخرين، وما سيفعلونه، وحينما نخرج بتنبؤات، تتضمن السلوك الخاص للإنسان ، واستجاباته الخفية ، وحالاته الداخلية ومعتقداته ، ومعانية،حينما نطور توقعات وحينما نتنبأ نفترض أن لدينا مهارة يسميها علماء النفس بالتقمص الوجداني، أي القدرة على الإسقاط وتصور انفسنا في ظروف الآخرين، ويساعد على تطوير تلك القدرة، التحرك المادي، من مكان إلى آخر،كذلك تعمل وسائلً الإعلام على تطوير المقدرة على التقمص الوجداني بين الأفراد الذين لم ينتقلوا من مجتمعاتهم المحلية أبداً، لأن تلك الوسائل تنقل العالم الخارجي إليهم.

وهناك نظريتان عن التقمص الوجداني:

نظرية تقول أننا نجرب الأشياء مباشرة، ونفس ما يفعله الآخرون وفقاً لخبراتنا، أي نفترض ان جميع الناس سوف يتصرفون بنفس الطريقة التي نتصرف بها، وإننا لا نستطيع أن نتنبأ بما سيفعله الآخرون، إذا لم نمر نحن أنفسنا بنفس التجربة التي يمرون بها.
والنظرية الثانية تقول اننا نحاول أن نضع أنفسنا في ظروف ومواقف الآخرين، وفي اتصالنا نتحول من الاستنتاجات إلى اخذ أدوار الآخرين، على أساس تنبؤاتنا.

كيف نطور هذه المقدرة على التقمص الوجداني ؟

إن هذا ه سؤال أساسي لطلبه الاتصال ، ولكن للأسف ليس لدينا رد قاطع عليه، فهناك بعض النظريات المتعلقة بالتقمص الوجداني تتفق مع الأدلة التي تم التوصل إليها بالبحث، ونستطيع أن نعرف التقمص الوجداني بأنه العملية التي نتوصل بمقتضاها إلى توقعات ، توقعات عن الحالات السيكولوجية الداخلية الإنسان .


كيف يحدث هذا ؟..هناك ثلاث وجهات نظر أساسية عن التقمص الوجداني، فترى إحدى مدارس الفكر أنه ليس هناك تقمص وجداني، وإننا لا نستطيع أن نطور توقعات،الذين يؤيدون هذا الرأي هم من المؤمنين غالبا بنظرية التعلم البسيطة المكونة من منبه واستجابة، وأصحاب هذه النظرية يقولون أن كل ما لدينا في عملية الاتصال هو مجموعة من الوسائل، رسالة يقدمها شخص ويدركها شخص آخر ، بمعنى آخر هناك منبهات واستجابات، وهذا كل ما في الأمر. ونظرية التعلم البسيطة قد تفسر التعلم غير البشري عند الحيوان ، ولكنها لا تفسر سلوك البشر، فالبشر يطورون توقعات، ولديهم المقدرة على تصور أنفسهم في حالات وظروف الآخرين النفسية، ولهذا لا نستطيع قبول الرأي الذي لا يعترف بوجود التقمص الوجداني، وأننا لا نستطيع أن نطور توقعات وتنبؤات، ذلك لأنه لا بد أن تحدث عملية تفسيرية من نوع ما قبل القيام بالاستجابة، وتطوير التوقعات يحتاج إلى موهبة من نوع ما، فنحن في حاجة إلى أن نفكر في الأشياء التي ليست أمامنا والتي لم نجربها، ولكي يكون لدينا توقعات ، ولكي نتحدث عن الأشياء غير المتوفرة، نحن في حاجة إلى أن نصنع تلك الرموز ونؤثر عليها، فالإنسان يختلف عن الحيوان في أنه يطور كلتا المهارتين التين حدثنا عنهما، فهو قادر على أدراك الرموز والتأثير عليها، كما أنه يستطيع أن يصنع الرموز لتخدم أغراضه، لهذا السبب يستطيع أن يعيد تقديم الأشياء غير الموجودة أمامه، أي تقديم ما ليس هنا وما لا يحدث الآن، ومن الواضح أن الإنسان لديه تلك المهارة، بالرغم من أن هناك اختلافات فردية بين الناس.


لهذا يرفض الباحث الرأي الذي لا يعترف بمفهوم التقمص الوجداني، فنحن جميعاً نتوقع المستقبل. ونقوم بعمل تنبؤات عن العلاقات بين :

(1) السلوك الذي نقدم عليه،

(2) والسلوك الذي يقدم عليه الآخرون استجابة على سلوكنا،

(3) والاستجابة التالية التي نقدم عليها بناء على سلوك الناس. 

فنحن نقوم بأكثر من الفعل ورد الفعل، لأننا نطور توقعات عن الآخرين تؤثر على أعمالنا قبل أن نقوم بتلك الأعمال، وهذا ما نعنيه بالتقمص الوجداني.


وهناك نظريتان معروفتان عن أسس التقمص الوجداني. توافق النظريتان على أن المادة الأساسية للتوقعات هي السلوك المادي الذي يقوم به الإنسان وكلتا النظريتين توافقان على أن تنبؤات الإنسان عن الحالات السيكولوجية الداخلية عنده تقوم على السلوك المادي الذي يمكن ملاحظته ، وكلتاهما تتفقان على أن الإنسان يكون تلك التنبؤات باستخدام رموز تشير إلى ذلك السلوك المادي وبالتأثير على تلك الرموز .


أولا – نظرية الاستنتاج في التقمص الوجداني :

Inference Theory of Empathy

تقول نظرية الاستنتاج في مجال التقمص الوجداني أن الإنسان يلاحظ سلوكه المادي مباشره، ويربط سلوكه رمزيا بحالته السيكولوجية الداخلية ، أي بمشاعره وعواطفه.. الخ ، ومن خلال هذه العلمية ، يصبح لسلوكه الإنساني معنى ،أي يصبح (لتفسيراته معنى). يطور الفرد مفهومه عن ذاته بنفسه على أساس ملاحظاته وتفسيراته لسلوكه الخاص .


وبمفهوم الذات، يتصل بالآخرين ويلاحظ سلوكهم المادي، وعلى أساس تفسيراته السابقة لسلوكه وما ارتبط من مختلف المشاعر والعواطف يخرج باستنتاجات عن حالة الآخرين السيكولوجية .بمعنى آخر، يقول لنفسه أنه إذا كان سلوكه يعكس كذا وكذا من المشاعر،إأذا قام شخص آخر بهذا السلوك فهو أيضا يعكس نفس المشاعر التي شعر بها حينما قام بهذا العمل.


هذا الرأي في التقمص الوجداني يفترض أن الإنسان لديه معلومات من الدرجة الأولى عن نفسه، ومن الدرجة الثانية عن الناس الآخرين. ويقول أن الإنسان لديه المقدرة على فهم نفسه، عن طريق تحليل سلوكه الذاتي، ومن هذا التحليل يستطيع الإنسان أن يخرج باستنتاجات عن الآخرين تقوم على أساس أن هناك تماثلاً بين سلوكهم وسلوكه .


ولنأخذ مثالاً لهذا، افترض أنك لاحظت أنك تقوم بدق المائدة بيدك كلما شعرت بالغضب، ثم شاهدت شخصاً أخر يدق بيده على المائدة، حينئذ سوف تستنتج من سلوكه أنه غاضب، أي أنك تستطيع ان تستنتج أحاسيسه الداخلية من : ( أ ) ملاحظة سلوكه، ( ب ) مقارنة سلوكه بسلوك مماثل أقدمت عليه وعبرت فيه عن غضبك .


هذا هو الموقف الذي تأخذه نظرية الاستنتاج المتصلة بالتقمص الوجداني.. فما هي الافتراضات الكامنة فيها ؟

1. إن الإنسان لديه معلومات من الدرجة الأولى عن أحاسيسه الداخلية، ويمكن أن تكون ليه معلومات من الدرجة الثانية عن أحاسيس الآخرين الداخلية .

2. إن الآخرين يعبرون عن أحاسيسهم الداخلية بالقيام بنفس السلوك الذي نقوم به للتعبير عن مشاعرنا.

3. إن الإنسان لا يستطيع أن يفهم الحالة الداخلية للآخرين، ما لم يجرب تلك الحالة بنفسه، فالإنسان لا يستطيع أن يفهم العواطف التي لم يشعر بها والأفكار التي لم تخطر بذهنه .. الخ .

وسنعالج هذه الافتراضات واحدة بعد أخرى:

أولاً: نظرية الاستنتاج في التقمص الوجداني


أن معلومات الإنسان عن نفسه هي معلومات من الدرجة الأولى، وكل المعلومات الأخرى هي معلومات من الدرجة الثانية، وسنناقش هذا الافتراض ونحن نستعرض نظرية أخذ الأدوار في التقمص الوجداني .
ثانيا : الافتراض الثاني يشير إلى أن كل الناس تعبر عن أحاسيسها بسلوك واحد متشابه في مجموعه، وأن كل الناس يعنون نفس الأشياء بالسلوك الذي يقدمون عليه، ولكن هذا الافتراض لا يمكن قبوله بشكل مطلق ، بل وكثيراً ما يفشل الاتصال بسبب هذا الاعتقاد، فنحن نفترض دائماً أن الشخص الآخر يعطي نفس المعنى الذي نعطيه لكلمة ما، وأن ابتسامة من شخص آخر تعبر عن نفس الحالة الداخلية التي تعبر عنها ابتساماتنا، وأن الآخرين يرون العالم بنفس الطريقة التي نراه بها، لمجرد أنهم يقومون بقدر كبير من السلوك المادي الذي نقوم به .


حقيقة أننا كثيراً ما نتوصل إلى أفكارنا على الحالات الداخلية للآخرين باستنتاجها من حالاتنا الذاتية، كما نربطها بسلوكنا الذاتي، ولكننا ونحن نفعل ذلك كثيراً ما نخطئ، فنحن نفشل دائماً في معرفة ما يحدث في نفوس الآخرين حينما نفترض أنهم مثلنا .
ونحن في حاجة إلى استخدام أسلوب آخر في معالجة التقمص الوجداني يفسر تفسيراً كاملاً نجاحنا في التنبؤ بسلوك الآخرين، وتوقع ذلك السلوك ونحن في حاجة إلى أسلوب يفترض أن الناس ليسوا متماثلين .


علاوة على هذا هناك دلائل تشير بعدم صحة الافتراض الثالث لنظرية الاستنتاج الذي يقول بأننا لا نستطيع أن نفهم المشاعر الداخلية للناس الآخرين ما لم نجربها بأنفسنا، وحقيقة أن الإنسان يفهم بشكل أفضل تلك الأشياء التي جربها بنفسه، ولكنه يستطيع بالرغم من ذلك أن يفهم (على الأقل جزئياً) بعض المشاعر التي لم يجربها، على سبيل المثال نستطيع أن نحس بشعور الأم عندما تفقد طفلها، ونستطيع أن نتصور مشاعر السعادة التي يشعر بها الفرد الذي يتزوج الفتاة التي يحبها، بالرغم من أننا نحن أنفسنا لم نتزوج، فالتجربة تزيد فهمنا، ولكنها ليست أساسية للفهم .


والحجج الأساسية في نظرية الاستنتاج للتقمص الوجداني فيها بعض المزايا، إلا أن نظرية الاستنتاج لا تفسر التقمص الوجداني بشكل يبعث تماماً عن الرضا، لذلك سنهتم بنظرية أخذ الأدوار التي روجها جورج ميد، وتعتبر أنعكاساً لوجهة النظر السيكولوجية الاجتماعية .


ثانيا : نظرية أخذ الأدوار في التقمص الوجداني :


إذا افترضا أن معلومات الإنسان من الدرجة الأولى هي عن نفسه، أو أن الإنسان يكوّن مفهوماً معيناً عن ذاته قبل أن يتصل بالآخرين، نستطيع أن نفحص سلوك بعض الأفراد ونحاول أن نفسر نتائج ذلك السلوك على التقمص الوجداني .
إذا نظرنا إلى الطفل الرضيع وكيف يتصرف وكيف يطور قدراته على التقمص الوجداني، نجد أن المادة الرئيسية التي يلاحظها الطفل هي السلوك المادي أي الرسالة السلوكية، والطفل مثل أي شخص آخر يستطيع أن يلاحظ، ويقوم بسلوك عادي.. السؤال الآن هو كيف يطور الطفل تفسيراته عن ذاته وعن الآخرين ؟


إن أصحاب نظرية أخذ الأدوار يدّعون أن الطفل المولود حديثاً لا يستطيع أن يميز أو يفرق عن الآخرين ولكي يطور فكرته عن ذاته يجب أن ينظر الطفل أولاً إلى نفسه كشيء وأن يتصرف تجاه نفسه كما يتصرف تجاه الناس الآخرين، بمعنى آخر فكرة الذات لا تسبق الاتصال، بل تتطور من خلال الاتصال، الطفل الصغير يقلد كثيراً، فهو يلاحظ سلوك الآخرين ويحاول أن يقلد سلوكهم بقدر الإمكان، بعض السلوك الذي يقلده سلوك موجه إليه، فأمه تحدث أصواتا حين تتحدث في وجوده، ويبدأ الطفل في تقليد تلك الأصوات ووالده يحرك عضلات وجهه ( يبتسم) في وجوده فيبدأ في تقليد حركات الوجه هذه .


وبتقليد السلوك الموجه إليه يبدأ الطفل بنفسه في التصرف، كما يتصرف الآخرون نحوه، ولكن ليس لديه تفسير لتلك الأعمال أو التصرفات، وليس لتصرفاته معنى عنده، هذه هي بداية أخذ الأدوار وبداية تطوير الذات، وفي المرحلة الأولى من مراحل أخذ الأدوار يمارس الطفل فعلاً أدوار الآخرين بدون أن يفسرها، يقلد سلوك الآخرين، ويجازى على استجاباته التي يأخذ فيها أدواراً، فيترك الاستجابات التي لا يرضى الآخرون عنها، في حين يستبقي الاستجابات التي حظيت بقبولهم.


وبتطور الطفل يزداد سلوكه الذي يأخذ فيه أدوار الآخرين، ويتصرف نحو نفسه بشكل متزايد، بنفس الطريقة التي يتصرف بها الآخرون نحوه، في نفس الوقت، يتعلم أن يصنع مجموعة من الرموز ويتحكم فيها، يصنع رموزاً لها معنى عنده وعند الآخرين، وحينما يزود الطفل بمجموعة من الرموز، يستطيع أن أ يبدأ في فهم الأدوار التي يأخذها، ويستطيع أن يفهم كيف سيتصرف الآخرون نحوه، كما يستطيع أن يبدأ فعلاً في وضع نفسه في أماكن الآخرين، وينظر إلى نفسه بالطريقة التي ينظر بها الناس إليه، وكثيراً ما نشاهد أطفالاً صغاراً يبلغون من العمر عامين أو ثلاثة يلعبون بإقامة حفلات شاي يتخيلونها، ونسمعهم يؤنبون بعضهم البعض، بصنع رسائل كانت قد وجهت إليهم، مثل احمد يجب ألا تفعل ذلك وألا حرمتك من الحلوى، أو لا يا زينب، ليست هذه هي الطريقة التي يجب أن تجلسي بها على المائدة .


حينما يتصرف الطفل بهذا الشكل، فهو ينظر إلى نفسه كمحور للسلوك، أي ينظر إلى نفسه على أنه شيء خارجي، فهو يلعب دور الوالدين، ويضع نفسه في مكان الوالدين، هذه هي المرحلة الثانية من مراحل اخذ الأدوار، وفيها يلعب الطفل أدوار الآخرين بفهم، وحينما ينضج الطفل يقوم بأدوار الآخرين الأكثر تعقيداً، وباستخدام الرموز يستنتج أدوار الآخرين ويحتفظ بتلك الأدوار في ذهنه، بدلاً من القيام بأدوار الآخرين مادياً، هذه هي المرحلة الثالثة من مراحل القيام بدور، وهي المرحلة التي يبدأ فيها الطفل في وضع نفسه في أماكن الآخرين رمزياً، بدلاً من وضع نفسه مكانهم مادياً .


وحينما يضع الطفل نفسه في مكان الأطفال الآخرين، يطور توقعات عن سلوكه الذاتي أي عما هو متوقع منه في هذه الظروف، ثم يتصرف بعد ذلك وفقاً لتلك التوقعات، كما يحددها أخذه لأدوار الآخرين، إذا قام بعمل جيد، وهو يأخذ الأدوار سيتفق سلوكه مع توقعات الآخرين وسيكافؤنه، وإذا لم يقم بما هو متوقع منه في اخذ الأدوار لن يكافئ، بل سيعاقبه الآخرون، وباستمرار، بالمساهمة في نشاط الجماعة، يمارس الطفل أدواراً كثيرة يقوم بها الآخرون، وفي قيامه بتلك الأدوار ينظر إلى نفسه كمتلقي، وكمحور للسلوك، وبالتدريج يبدأ في التعميم عن ادوار الآخرين، أي يبدأ في تكوين أفكار عامة عن الطريقة التي سوف يتصرف بها الآخرون، وكيف يفسرون وكيف يستجيبون عليه، ويسمى هذا مفهوم التعميم عن الآخرين، والتعميم عن الآخرين هو عملية تجريدية تقوم على ما يتعلمه الفرد عن الأدوار الفردية الشائعة التي يقوم بها الآخرون في جماعته .


كل منا يطور ويعمم عن الآخرين، على أساس خبراتنا في ظروف اجتماعية معينة، وعلى أساس أدوار الآخرين المتتابعة التي نقوم بها، التعميم عن الآخرين يوفر لنا مجموعة من التوقعات عن الطريقة التي يجب أن نتصرف بها، هذا هو ما نعنيه بمفهوم الذات، أي أن مفهوم الذات عندنا هو مجموعة من التوقعات التي نعتنقها، عن الطريقة التي يجب أن نتصرف بها في ظرف معين، كيف نطور مفهوم الذات ؟.. أننا نطوره عن طريق الاتصال، وعن طريق أخذ أدوار الآخرين وعن طريق التصرف نحو الآخرين، كمحور للاتصال، وعن طريق تطوير تعميم عن الآخرين.


ثالثا : نظرية الاستنتاج:

 

 تفترض وجود مفهوم الذات، وتقترح أننا نستطيع أن نتقمص وجدانيا باستخدام مفهوم الذات، لنخرج باستنتاجات عن حالات الآخرين الداخلية، وتقترح نظرية الاستنتاج أن مفهوم الذات يحدد كيف نتقمص وجدانيا، أما نظرية أخذ الأدوار فتعالج الموضوع من الناحية الأخرى تماماً .


فتقترح أن مفهوم الذات لا يحدد التقمص الوجداني بدلاً من ذلك، الاتصال يؤدي إلى مفهوم الذات، وأخذ الأدوار يسمح بالتقمص الوجداني، كلتا النظريتين تعطيان أهمية كبيرة لطبيعة اللغة والرموز المهمة في عملية التقمص الوجداني وتطوير مفهوم الذات .
أي منهما نصدق ؟.. وكيف يتقمص الإنسان وجدانيا ؟.. نقول أن الإنسان يستخدم كل تلك الأساليب في التقمص الوجداني، فالإنسان يبدأ بأخذ الأدوار، فكل منا يأخذ أدوار الآخرين، وكل منا يعمم عن الآخرين، والطريقة التي ننظر بها إلى أنفسنا يحددها مفهومنا أو أسلوبنا في التعميم عن الآخرين، والمضمون الاجتماعي الموجود وتوقعات الآخرين عن سلوكنا.


حينما ننضج نطور أو نبني مفهوم الذات، ثم نعمل وفقاً له، نبدأ الآن في عمل استنتاجات عن الآخرين، تقوم على أساس مفهومنا عن الذات، فنقلل من قيامنا بأدوار الآخرين، ونزيد من استخدامنا للاستنتاجات، ونفترض أن الناس الآخرين مثلنا وأن سلوكهم يعكس نفس الحالات الداخلية التي يعكسها سلوكنا، ونستمر في القيام بذلك حتى يصبح هذا العمل غير مجزياً .


حينما نتقمص وجدانيا، بعمل استنتاجات ثم لا نجازى عليها نضطر إلى نلجأ إلى حل واحد من حلين أما :

1. أن نحرف سلوك الآخرين الذي ندركه ونجعله يتفق مع توقعاتنا.

2. أو أن نعيد النظر في صورتنا الذهنية عن أنفسنا، ونعيد تعريف ذاتنا، ونعود مرة أخرى إلى أخذ الأدوار.

وإذا لجأنا إلى الحل الأول أي تحريف العالم الذي ندركه، نصبح مرضى بأمراض عقلية، وتصبح لدينا تصورات غير واقعية، وينتهي بنا المطاف في مستشفى للأمراض العقلية، وهذا ليس مرغوباً فيه، ونستطيع أن نتنبأ بأن مشكلة الصحة العقلية متصلة بعدم مقدرة الإنسان أو عدم رغبته في تغيير صورته الذهنية عن نفسه، حينما يجد أن هذه الصورة غير مجزية في الظروف الاجتماعية المحيطة به .


وماذا عن الحل الثاني البديل، أي إعادة تعريف الذات ؟.. لكي نفعل هذا علينا أن نعود إلى اخذ الأدوار، أدوار الآخرين، وأن نطور مفهوماً جديداً للتعميم عن الآخرين، ومجموعة جديدة من التوقعات عن سلوكنا، حينما نفعل ذلك نعيد أنفسنا ونغير سلوكنا، وفقاً لهذا التعريف الجديد، ونبدأ مرة أخرى في الخروج باستنتاجات عن الناس الآخرين .


حينما نلعب دور شخص آخر، نجمع في وقت واحد نظريتي الاستنتاج وأخذ الأدوار، وحينما نلعب دوراً نحن نقدم في الواقع على سلوك معين، من هذا نستطيع أن نستنتج حالاتنا الداخلية المتصلة بهذا السلوك أو ذاك، ونستطيع أن نستخدم تلك الاستنتاجات في القيام بدور شخص آخر.


فعمليتا القيام بدور والاستنتاج تسيران سوياً باستمرار، فهي تعني أن الإنسان يكيف نفسه، ويستطيع أن يغير سلوكه ليتفق مع الظروف والوضع الاجتماعي الذي يجد نفسه فيه، وذلك بأن يطور توقعات يقوم فيها بأدوار الآخرين أو باستنتاجات، أو يفعل الأمرين معاً.


والسؤال هنا متى نجد أنه من الضروري أن نعيد تعريف الذات ؟.. نشعر بالحاجة إلى ذلك حين ندخل في جماعة جديدة أو نجد أنفسنا في ظروف اجتماعية مختلفة، على سبيل المثال حينما يدخل مراهق الجامعة، يجد نفسه في ظرف اجتماعي جديد، وعندئذ قد تكون استنتاجاته عن الآخرين غير صالحة لحياته الجديدة، لذلك يقوم بعمل تنبؤات خاطئة، وتصبح توقعاته مهزوزة، وعادة ما يبدأ في سؤال نفسه هذا السؤال: من أنا في حقيقة الأمر ؟


ماذا يفعل المراهق ؟.. يبدأ في أخذ الأدوار في مرحلة مبكرة، أي يبدأ في تقليد سلوك الآخرين بدون أن يكون لهذا التقليد معنى، وتدريجياً يأخذ أدوار الآخرين من الطلبة أو المدرسين ... الخ، ويضع نفسه في موقف الآخرين وينظر إلى نفسه من خلال أعينهم، وهو إذ يفعل ذلك يطور مفهوماً جديداً عن الآخرين، ومجموعة جديدة من التوقعات عن سلوكه الذاتي، وهكذا يعيد تعريف نفسه، ويبدأ في التصرف وفقاً لهذا التعريف الجديد.


هذه العملية مطلوبة منا، أكثر من مرة، في مواقف كثيرة من حياتنا، فحينما ندخل في مجتمع جديد أو ننضم إلى جماعة جديدة أو نسافر إلى حضارة مختلفة، تضعف قدرتنا على التنبؤ، حينئذ يصبح من الصعب أن نصنع استنتاجات أساسها معرفتنا الذاتية، وإذا كأن علينا أن نعمل بفاعلية على تغيير الوضع الاجتماعي، نحن في حاجة إلى أن نأخذ أدوار الآخرين، ونعيد تعريف أنفسنا، عندما يتم ذلك يصبح هذا إلى حد ما علامة على أن الإنسان قد تكيف.


دور وسائل الإعلام في تنمية المقدرة على التقمص الوجداني

(نظرية دانييل لرنر) :

يعتبر عالم الاجتماع الأمريكي دانييل لرنر أن المقدرة على التقمص الوجداني من الخصائص الأساسية اللازمة لانتقال المجتمع من الشكل التقليدي إلى الشكل الحديث، ويفترض أن هذه الخاصية كانت تكتسب في الماضي بتحرك الأفراد مادياًن وانتقالهم من مكان إلى أخر، واختلاطهم بالآخرين، في القرن العشرين أصبحت هذه الخاصية تكتسب أساساً عن طريق وسائل الإعلام التي قامت بنقل العالم الخارجي إلى الأفراد الذين لم تتح لهم الفرصة لكي يسافروا أو يتركوا مجتمعاتهم المحلية .


وقد ربط لرنر المقدرة على التقمص الوجداني بتسلسل تاريخي حدث في المجتمعات الغربية، فأشار في استعراضه لانهيار أو زوال المجتمع التقليدي في الشرق الأوسط " بناء على المادة التي جمعها له مركز الأبحاث التطبيقية في جامعة كولومبيا الأمريكية عن ست دول في الشرق الأوسط، وبناء على المادة التعليمية التي حصل عليها عن 54 دولة" على أن هناك مراحل محددة يمر بها المجتمع ليصل إلى المرحلة الحديثة، المدينة تتسع لتشمل القرى المجاورة، نسبة أكبر من الأفراد تتعلم القراءة، وتتعلم كيف تكون آراء، نسبة أكبر تشتري الصحف وتستمع إلى الراديو، ونسبة أكبر تكتسب القدرة على التقمص الوجداني أي تصور نفسها في مواقف وظروف الآخرين، ثم يتسع نطاق المساهمة السياسية والاقتصادية .


ونظرية لرنر مستخلصة من التاريخ، فقد وجد من استعراضه لتطور الديمقراطيات الغربية أن عملية التحضر أظهرت بعض التسلسل والخصائص التي يمكن أن نعتبرها عالمية، أي تحدث في جميع المجتمعات، ففي كل مكان حدث فيه الانتقال إلى المدن زادت نسبة المتعلمين، وزيادة نسبة المتعلمين رفعت نسبة من يتعرضون لوسائل الإعلام، وزيادة التعرض لوسائل الإعلام سارت موازية لاتساع المساهمة الاقتصادية، أي الدخل القومي، والمساهمة السياسية أي الانتخاب، هذا التسلسل الذي حدث في الديمقراطيات الغربية هو حقيقة تاريخية، وقد صحب تلك التطورات التي تظهر في التطور التاريخي خاصية سيكولوجية هي مقدرة الأفراد على تصور أنفسهم في ظروف الآخرين، فقد تميز الغرب في مراحل تطوره الأولى بأنه كان يتسم بأوضاع غير ثابتة، فقد حدثت فيه هجرات مستمرة للوصول إلى أرض جديدة، يستطيع الناس أن يحققوا فيها ربحاً، وأصبح الأفراد الذين تركوا أوطانهم يتميزون بشخصيات متحركة، وبقدرة عالية على استيعاب الجوانب الجديدة في الظروف المحيطة . فقد تحركوا وهم مهيئون ومجهزون لاستيعاب مطالب جديدة عليهم، يفرضها محيطهم الخارجي الجديد، أشياء قد لا يكونون قد جربوها من قبل، هذا الاستعداد جعلهم قادرين على التقمص الوجداني .


المجتمع التقليدي مجتمع لا يساهم أفراده في أوجه النشاط السياسي، والقرابة هي أساس التعامل فيه، وجماعاته الصغيرة منعزلة بعضها عن بعض، وعن المركز العاصمة، حاجات المجتمع التقليدي قليلة، فليس هناك تبادل تجاري بين أجزائه المختلفة، وبدون الروابط التي تنشأ نتيجة لاعتماد أجزاء المجتمع بعضها عن البعض يضيق أفق الأفراد، وتقل قدراتهم على التحليل، لأن اختلاطهم بالآخرين بسيط، إن لم يكن معدوما،ً لذلك فإدراك أفراد ذلك المجتمع للحوادث يقتصر على ما عرفوه من خبراتهم القليلة السابقة المحصورة في نطاق مجتمعهم الصغير، وهم غير قادرين على فهم ما لم يجربوه بشكل مباشر، كما أن معاملاتهم مقصورة على الأفراد الذين يتصلون بهم مباشرة في علاقاتهم الشخصية، لذلك لا تظهر الحاجة إلى المناقشة بين الأفراد والجماعات في الأمور العامة، التي تتصل بالدولة والنظريات السياسية، أي أن الفرد لا يحتاج للنقاش وتبادل الآراء لكي يتفق مع الآخرين الذين لا يعرفهم، كما أن المجتمع لا يحتاج إليه للوصول إلى الإجماع في الرأي حول الشؤون العامة، لأن تجربة الفرد محدودة بحدود النطاق المحلي جداً، ولا يستطيع ذهنه أن يتصور أنه ينتمي إلى دولة كبيرة .


وقد سأل لرنر في دراسته عينة مكونة من 1357 فرداً من الشرق الأوسط تسعة أسئلة فيها إسقاط مثل :

إذا كنت رئيساً للحكومة أو محرراً في جريدة أو مديراً لمحطة إذاعة، فما هي الأشياء التي كنت تفعلها ؟.. وقد وجد لرنر أن الأفراد التقليديين يصابون بصدمة من هذا النوع من الأسئلة، ويتعجبون كيف توجه إليهم، أما الذين يتميزون بمقدرة على التقمص الوجداني، فكانوا يتمتعون بشخصيات متحركة، وقد جعلهم ذلك أكثر قدرة على التعبير بآراء عن موضوعات في مجالات كثيرة .


لا شك أن وسائل الإعلام هي التي زادت من مقدرة الأفراد على التحرك النفساني أو تخيل أنفسهم في مواقف لم يجربوها، وفي أماكن غير الأماكن التي اعتادوا رؤيتها، كما عودت أذهانهم على تصور تجارب أوسع من تجاربهم المباشرة المحدودة، وعلى تخيل مناطق لم يشاهدوها .


هذه الخاصية هي التي تميز الإنسان الذي يتغير في المجتمع المتطور، فهو عادة يتميز بشخصية متحركة لها مقدرة على التقمص الوجداني.


وحينما يظهر عدد كبير من الأفراد لهم القدرة على التقمص الوجداني في مجتمع من المجتمعات، نعرف أن هذا المجتمع في سبيله إلى التطور السريع.


فليرنر يرى أن التقمص الوجداني هو الخاصية التي تمكن العناصر الجديدة المتحركة Mobile من العمل بكفاءة في العالم المتغير، ويرى أنها مهارة لا غنى عنها للشعب الذي يتخلص من الإطار التقليدي، فالقدرة على التقمص الوجداني هي أسلوب الحياة السائد الذي يميز الأفراد في المجتمع الحديث، المجتمع الذي يتميز بصناعة متطورة، المجتمع الذي تعيش نسبة كبيرة من سكانه في المدن، المجتمع الذي ترتفع فيه نسبة التعليم، وتزداد نسبة الذين يساهمون من أفراده في الحياة السياسية .


وسائل الإعلام وسيلة لمضاعفة التحرك The Mobility Multiplier :


بفضل وسائل الإعلام أصبح في إمكان الفرد أن ينتقل من مكان إلى أخر نفسانيا، أي أصبح في إمكانه أن يتخيل نفسه في ظروف غريبة وأماكن جديدة .

فبدلاً من أن ينتقل الأفراد مادياً من مكان إلى أخر، وهو أمر يتوفر لفئة قليلة فقط، ويكون من أسباب نموهم النفساني والذهني، تدخل وسائل الإعلام جميع المناطق النائية منها والقريبة، في المجتمعات النامية، وتنقل الأفراد الذين لم يغادروا أبداً مكان مولدهم نفسانيا إلى العالم الخارجي، وتنشط خيالهم وتثير طموحهم، أي أن وسائل الإعلام تنمي القدرة على التقمص الوجداني، عند الأفراد لأنها تجعل التحرك النفساني يحل محل التحرك المادي الفعلي، ونظراً لأن التحضر حالة ذهنية واستعداد للتغيير والتكيف، نجد أن وسائل الإعلام بمساعدتها على تغيير تطلعات الأفراد وآفاقهم تقدم خدمة ضرورية لنمو المجتمع الحديث، وتطور المجتمع التقليدي، وقد أنتشر التقمص الوجداني في وقتنا الحالي على نطاق واسع بفضل انتشار وسائل الإعلام، بينما كانت الخبرة في الماضي تتوافر أساساً عن طريق الانتقال بوسائل المواصلات، من مكان إلى آخر، أصبح الأساس اليوم هو الخبرة التي تنتشر عن طريق وسائل الإعلام، وربما كان هذا هو السبب الذي دفعنا للحديث عن التقمص الوجداني في الباب المخصص لوسائل الإعلام.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق